يُعد موضوع الزيادة في الأجور من القضايا المحورية التي تحظى باهتمام واسع من مختلف الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين، لما له من تأثير مباشر على تحسين أوضاع الأجراء وضمان قدرتهم على تلبية حاجياتهم الأساسية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على التوازنات المالية للدولة والمقاولات والاقتصاد الوطني بصفة عامة. ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية مناقشة هذا الملف الحيوي في إطار الحوار الاجتماعي المستمر، انسجامًا مع ما نص عليه اتفاق وميثاق 30 أبريل 2022، الذي دعا إلى تفعيل آليات الحوار على مختلف المستويات، بدءًا من اللجنة العليا مرورًا بالحوار الثلاثي والقطاعي ثم على مستوى الجهات والأقاليم، باعتبار أن مختلف القضايا الاجتماعية مترابطة ويجب تناولها برؤية شمولية ومتكاملة.
إن تحسين أوضاع الأجراء لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن تقوية وتعميم الحماية الاجتماعية، من خلال المتابعة الدقيقة لعمل مؤسساتها وتفعيل آليات المراقبة لضمان قيامها بمهامها على الوجه المطلوب. كما يستوجب الأمر تعميم التصريحات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ووضع حد للتلاعبات التي تعرفها بعض المقاولات في عدد أيام العمل المصرح بها أو في الأجور المعلنة، لما لذلك من انعكاسات سلبية على حقوق الأجراء وعلى التوازنات المالية للصندوق. ويبرز أيضًا ضرورة إصلاح قانون التعويض عن فقدان الشغل الذي يتطلب فقط بعض الإجراءات التقنية البسيطة رغم توفر التمويلات اللازمة، إلى جانب تعميم التأمين على حوادث الشغل والأمراض المهنية لحماية العاملين من المخاطر المرتبطة ببيئة العمل.
وفي السياق نفسه، يشكل إصلاح صناديق التقاعد ركيزة أساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية، إذ ينبغي الرفع من مساهمة الدولة إلى الثلثين بالنسبة لأجراء القطاع العام، واستثمار أموال هذه الصناديق بما يخدم مصالح المنخرطين، مع مراجعة المعاشات لتتناسب مع متطلبات العيش الكريم، وإتاحة إمكانية رفع سن التقاعد على أساس الاختيار. كما يظل ضبط الأسعار ومراقبتها بشكل صارم أمرًا حيويًا في ظل التلاعبات التي تعرفها الأسواق، مما يتطلب وضع استراتيجية وطنية واضحة تضمن الشفافية في تحديد الأثمنة وإشهارها، حمايةً للقدرة الشرائية للمواطنين.
أما بخصوص الأجور، فإن الزيادة فيها يجب أن تتم بناءً على مقاربة تشاركية بين الحكومة والنقابات الأكثر تمثيلية، بما يضمن العدالة بين مختلف القطاعات دون تمييز. كما يتوجب في القطاع الخاص الرفع من الحد الأدنى للأجر بما يتناسب مع مستوى الأسعار، والعمل على تطبيقه فعليًا في جميع المقاولات، إذ إن عدم احترامه من طرف عدد كبير من المشغلين يُلحق ضررًا جسيمًا بفئة واسعة من الأجراء ويؤثر سلبًا على المقاولات الملتزمة بالقانون.
وتتضح الخلاصة من كل ما سبق في أن تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار لا يمكن أن يتم إلا من خلال رؤية شاملة تجمع بين تقوية الحماية الاجتماعية، وإصلاح صناديق التقاعد، ومراقبة الأسعار بصرامة، والزيادة المنتظمة في الأجور وفق تطورات الوضع الاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب احترام الحد الأدنى القانوني للأجر في القطاعين العام والخاص. فالتناغم بين هذه العناصر من شأنه أن ينعكس إيجابًا على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويُسهم في خلق مناخ اجتماعي مستقر ويحد من مظاهر التوتر والاحتجاج.
وفي سبيل ترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس، يقترح إحداث لجنة ثلاثية تضم ممثلين عن القطاعات الوزارية ذات الصلة، والمنظمات النقابية الأكثر تمثيلية، والاتحاد العام لمقاولات المغرب، والكونفدرالية المغربية للفلاحة والتنمية القروية. وتُعهد إلى هذه اللجنة مهمة إعداد اقتراحات عملية تُعرض على دورات الحوار الاجتماعي، على أن تتفرع عنها لجان جهوية ومحلية لمتابعة تنفيذ التوصيات وتكثيف جهود التحسيس بأهمية احترام الحد الأدنى للأجور وتعميم الانخراط في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. فذلك هو السبيل الأمثل نحو بناء عدالة اجتماعية حقيقية تقوم على أساس التوازن بين الأجور والأسعار، في خدمة الاستقرار والتنمية.

