منذ اللحظة التي اختفى فيها المتهم الرئيسي في جريمة القتل التي هزّت حيّ “طنجة البالية”، تحولت المدينة إلى خلية أمنية مفتوحة، فرق البحث والكلاب البوليسية والاستعلام التقني تجوب الشوارع وغابات المنطقة، فيما يختبئ “الهارب” في مكانٍ ما أو يتوجه لوجهة ما، بين خوفٍ مطلق وغريزة بقاءٍ تدفعه إلى أقصى حدود الصبر. لكن خلف هذا المشهد البوليسي، هناك بعدٌ آخر لا يقلّ أهمية: الحالة النفسية والذهنية لمجرمٍ يهرب وهو يعلم أن مصيره المؤبد.
من لحظة الفرار إلى لحظة الإدراك
يصف علم الإجرام الساعات الأولى بعد الهروب بأنها “انفجار غريزي للبقاء”، حيث لا يفكر المجرم بل يتحرك بدافع بدائي: الجري، الاختباء، مراقبة الأصوات، والتنفس السريع. لكن بعد مرور الوقت، يعود الإدراك القاسي: “أنا مطارد… وأنا ميت حرّ.” تلك الجملة تصبح هاجساً يرافقه في كل لحظة، وتحول كل إحساس طبيعي إلى توتر وجودي. ومع ازدياد الخوف، يدخل المجرم في دوامة من التفكير المهووس بالنجاة، متجاهلاً الواقع الذي يُطبق عليه من كل الجهات.
الخوف كرفيق دائم
يعيش الهارب في يقظة متواصلة لا تسمح له بنومٍ حقيقي. وإن نام، فبعيونٍ نصف مفتوحة وأذنٍ تلتقط أدق الأصوات. كل نباح كلب أو صفارة شرطي أو صوت محرّك بعيد يترجمه عقله كعلامة خطر. يؤكد خبراء النفس أن قلة النوم المتكررة تُنتج اضطرابات حسية وهلوسات سمعية وبصرية، تجعل المجرم يرى في الظلال وجوهًا مألوفة ويسمع اسمه يُنادى من العدم، فيعيش بين الوهم والواقع، بين الجريمة والمطاردة التي لا تنتهي.
ازدواجية بين الندم والعنف
يدرك المجرم أنه أمام مصيرٍ محتوم، لكنه في الوقت نفسه يرفض الاعتراف بالسقوط، يعيش تناقضاً حاداً بين الرغبة في الاستسلام والرغبة في التحدي، بعض الدراسات النفسية تصف هذه الحالة بـ“رد الفعل الدفاعي القصوى”، حيث يقنع العقل نفسه أن الهروب ما زال ممكناً رغم استحالته واقعياً. وقد يبدأ المجرم بمساومات داخلية: “لو استطعت الوصول إلى الغابة… لو وجدت مهرباً ليلاً…” لكن هذه الأفكار تنهار سريعاً أمام الجوع، التعب، وبرودة الشوارع.
احتمال ارتكاب جرائم جديدة وأفعال عنف
مع تفاقم الضغط النفسي وانعدام الموارد، يرتفع احتمال لجوء الهارب إلى جرائم مادية بسيطة لخدمة غريزة البقاء: سرقة مأكولات أو أموال منهكة، اقتحام منازل مهجورة، أو سرقات صغيرة من الشوارع، والأهم من ذلك، تزداد أيضاً مخاطر وقوع اعتداءات عنيفة إذا شعر منعرج الخطر بأنه محاصر أو إذا واجه مقاومة أثناء محاولته الحصول على ما يحتاجه.
لا يمكن إسقاط إمكانية تحول السرقة إلى عنف دفاعي أو عدائي في مواجهة شكوكية أو مواجهة مفاجئة لشخص يُنبهه أو يحاول ضبطه، في هذا الإطار، يكون العنف غالباً رد فعلٍ لحظي تحت تأثير الذعر والهلع، لا خطة إجرامية باردة، ومع ذلك، تبقى هذه الاحتمالات واقعية وتستدعي اليقظة من المواطنين والسلطات عند الاقتراب من أية شخصية مشبوهة.
الجسد في خدمة الذعر
فسيولوجياً، يعيش الجسد في وضعية “طوارئ” مستمرة. القلب يضخ الأدرينالين بلا توقف، العضلات مشدودة، والتنفس سريع، بعد يومين فقط، تظهر أعراض الإنهاك: رعشة، تعرّق بارد، تسرّع نبضات، وإحساس دائم بأن أحداً يراقبه، في تلك المرحلة، لا يفكر المجرم في “المؤبد”، بل في الدقيقة التالية فقط: أين يختبئ؟ هل رآه أحد؟ هل يسمع خطوات تقترب؟
الوجه الهادئ في الكاميرات… والعاصفة في الداخل
ظهور المشتبه فيه لاحقاً في كاميرات المراقبة وهو يسير بهدوء في “طنجة البالية” لا يعني أنه مطمئن. هذه البرودة الظاهرية تخفي اضطراباً داخلياً عميقاً. في علم النفس الجنائي، يُعرف هذا السلوك بـ“القناع الدفاعي”، وهو آلية ذهنية يتقمصها المجرم لتجنّب الانهيار، يبدو طبيعياً في العلن، لكنه يعيش في داخله ما يسمى بـ“الانفصال الإدراكي” — وعيه مقسوم بين واقع يطارده ووهم يمنحه شعوراً مؤقتاً بالأمان.
كيف يمضي الهارب أسبوعه؟ — الأيام الأولى ثم ما بعدها
الأيام الأولى (24–72 ساعة):
• فرط الحركة والبحث عن مأوى مؤقت: يختبئ في أزقة ضيقة، تحت أرصفة، أو في مبانٍ مهجورة يعرفها من قبل.
• يقظة شبه دائمة: ينام لفترات قصيرة جداً نهاراً أو ليلاً، يفضّل الأماكن المظلمة ويبتعد عن التجمعات.
• مصادر غذاء مؤقتة: يقتات من نفايات أو يطلب المساعدة من متشردين آخرين أو يرتكب سرقات صغيرة.
• تزايد الهلوسات والأحلام المقلقة: البداية الحقيقية لتشوش الإدراك.
اليوم الثالث إلى السابع:
• استنزاف الجسد والعقل: التعب يزداد، القرار يصبح أبطأ، واليقظة الفائقة تتحول إلى لحظات ارتخاء قصير لا طائل منها.
• محاولات تغيير المظهر: قص شعر مؤقت، تبديل ملابس قديمة، أو اللجوء إلى نقاط بعيدة لإخفاء الآثار.
• تصاعد الاحتمالات الإجرامية: قد يرتكب سرقة متزايدة أو مواجهة عنيفة إذا شعر بأن شخصاً يكشف أمره، قد يحاول أيضاً الانتقال إلى حي آخر أو مدينة أخرى إن أمكنه ذلك.
• الاشتداد النفسي: بدايات التفكير بالاستسلام أو البحث عن مخرج أو وساطة عبر وسيط شوارع—أفكار تتقاطع بينها رغبة النجاة والخوف من القبض.
بعد الأسبوع الأول:
• تهاوي القدرة على الصمود: إما القبض أو تسليم النفس أو انهيار نفسي يستدعي تدخل صحّي أو جنائي.
• إن استمر على حريته، تقلّ مرونته وتعلو فرص ارتكابه لأخطاء تكشف مكانه (إجبار على السرقة العلنية، سلوك عدائي يظهره للكاميرات أو المارة).
• النفسية تهبط: البقاء يصبح عبئاً ثقيلاً، وتظهر احتمالات الاستسلام كخيار أكثر قبولًا من الجنون أو الموت البطيء.
في حالة الشك أو مواجهته من طرف مدني
حين يواجهه مدني أو يشتبه به، فإن ردّة فعله غالباً ما تكون انعكاسية: إما انسحاب فوري وتبديل مساره، أو اندفاع عدائي لحماية نفسه من القبض—وهذا ما يجعل مواجهة المواطنين خطيرة، من الأفضل إعلام المصالح الأمنية المختصة بدلاً من المواجهة المباشرة، لأن احتمال تحول الحدث إلى عنف واقعي مرتفع عندما يشعر الهارب بالحصار.
يقول أستاذ لعلم النفس الجنائي، إن “المجرم الهارب يعيش مفارقة مأساوية: كلما حاول إقناع نفسه بالنجاة، ازداد غرقاً في الخوف، إن بقاءه الحرّ مؤقت، لأن الخطر الحقيقي لم يعد خارجياً بل داخله، وما تفعله الشرطة في الواقع، يكمله جسده الذي ينهار ببطء تحت ثقل الذنب والرعب”.