فقط تخيّل معي عزيزي القارئ، ما الذي كنت تتوقعه من الخطاب الملكي خلال افتتاح السنة التشريعية بالبرلمان؟
هل كنت تنتظر إقالة الحكومة؟ أم ربما تغييرات وزارية واسعة؟
هل توقعت أن يتحدث الملك عن احتجاجات جيل Z؟ أن يباركها؟ أو أن يتبنى مطالبها بشكل مباشر؟
هل ظننت أن الخطاب سيحمل قرارات صادمة، أو أن الملك سيعلن عن حل البرلمان أو محاسبة شخصيات عمومية؟
الآن، لنعد إلى واقع الأمور… فالخطابات الملكية، ومنذ عقود، ليست خطابات ظرفية أو انفعالية، بل هي محطات تواصل مؤسساتي واستراتيجي بين الملك وشعبه، يوجه فيها السياسيين والمنتخبين إلى الاختيارات الكبرى والرؤى الوطنية ذات الأولوية، ويضع فيها معالم الطريق للمرحلة المقبلة.
ما يميز الخطب الملكية أنها بعيدة المدى، متوازنة، وتقوم على تشخيص هادئ وعملي للوضع العام… لا تندفع خلف الأحداث، ولا تتفاعل بمنطق الانفعال أو اللحظة… بل تُبنى على قراءة دقيقة لمتغيرات الداخل والخارج، وتحرص على التوفيق بين الواقعية والطموح.
غير أن بعض القراءات الإعلامية والسياسية حملت الخطاب أكثر مما يحتمل، وفسرته وكأنه رد مباشر على موجة الاحتجاجات الأخيرة، حتى قبل قراءته، في حين أنه خطاب مؤسساتي يأتي في إطار افتتاح السنة التشريعية… والخروج عن هذا السياق سيجعل كل دخول برلماني مرتبطًا بتوقعات غير منطقية، وسيدفع المواطنين كل خريف إلى انتظار “خطاب الصدام”، بدل انتظار خطاب التوجيه والإصلاح.
ولعل المقارنة التي يمكن استحضارها هنا هي مع الخطاب …التاريخي للملك في 9 مارس 2011، عقب احتجاجات 20 فبراير. ذلك كان خطابًا استثنائيًا في ظرف استثنائي. لكنه لم يتحول إلى موعد سنوي ينتظره المغاربة كل مارس، لأن الملك حينها رسم معالم إصلاح دستوري شامل، ولم يترك الباب مفتوحًا لتوقعات موسمية أو ردود فعل ظرفية.
إن المؤسسة الملكية لا تشتغل بعين الأسبوع أو الشهر القادم، بل بعين المستقبل البعيد. رؤيتها تراكمية، هادئة، ودقيقة، تُبنى على تفاصيل اليوم لتؤتي ثمارها في الغد.
لكن هذا لا يعني أن مطالب جيل Z تبخرت أو لم تجد صدى في الخطاب الملكي.
بالعكس، المتأمل جيدًا في فقرات الخطاب سيلاحظ أن الملك أشار إلى أهمية التواصل والتأطير السياسي للمواطنين، ودعا إلى إشراك الحكومة، البرلمان، الأحزاب، الإعلام، والمجتمع المدني في هذه المهمة… وهي بالضبط من بين أبرز النقاط التي رفعها شباب جيل Z، الذين طالبوا بوضوح أكثر في السياسات، وعدالة اجتماعية، وإشراك فعلي في اتخاذ القرار.
فحين يشدد الملك على ضرورة تأطير الشباب سياسياً، وتفعيل دور المؤسسات في التواصل معهم، فإنه يبعث برسالة واضحة: أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من بناء وعي جماعي وتنمية رأي عام مسؤول، لا من قرارات فوقية أو تغييرات شكلية.
ومن وجهة نظري، هذا أهم بكثير من مجرد تغيير حكومة.
لأن قبل أي تغيير في الوجوه، يجب أن نبني قيادات شبابية مؤهلة فكريًا وتنظيميًا، قادرة على التعبير والمطالبة والمشاركة بطريقة قانونية ومنظمة… حينها، حتى أسوأ الحكومات لن تستطيع تجاهلها، لأنها ستكون نتاج وعي سياسي جديد لا يُقهر بالشعارات أو المناصب.
تخيّل معي الآن، لو أن الملك أقال الحكومة اليوم، وطلب انتخابات عاجلة…
ما الذي سيحدث؟
هل نحن مستعدون فعلاً لذلك؟
سنجد أنفسنا أمام حكومة تصريف أعمال، إلى حين إجراء الانتخابات، وسنصوت على نفس الوجوه والأحزاب، لأن الزمن السياسي لا يسمح ببناء بدائل في أسابيع.
هل سنرشح شخصيات برزت فقط على وسائل التواصل الاجتماعي؟
هل نعرف كفاءتها التدبيرية؟ قدرتها على مواجهة الإغراءات؟ صمودها أمام النقد والضغوط؟
الإصلاح الحقيقي لا يُبنى في الشارع ولا في الصناديق فقط، بل في تربية سياسية طويلة الأمد، وفي تأطير مواطن يعرف ماذا يطالب، وكيف يطالب، ولماذا يطالب.
الخطاب الملكي لم يكن رد فعل، بل درس سياسي في الهدوء والرؤية.
رسالة تقول للمغاربة جميعًا: التغيير لا يأتي من الفوضى، بل من التنظيم، الوعي، والمشاركة المسؤولة.
فهل يعني هذا أن الملك لن يعود في المستقبل إلى التفاعل مع الاحتجاجات؟
بالعكس، الخطاب الملكي أكد أن الملك يتابع بتمعن لكنه لا يتسرع ولا ينساق… غير أن هذا الهدوء الواعي سيجعل الحكومة والوزراء أكثر حذرًا في المستقبل، خوفًا من زلات أو قرارات مرتجلة قد تجر عليهم ما لا يُحمد عقباه.
فقد شهدنا في السابق احتجاجات كبرى في قطاعات الصحة والتعليم والجماعات، ومع ذلك لم يشهد أي خطاب ملكي تدخلًا مباشرًا في تفاصيلها، بل ظلّ التوجيه عامًا واستراتيجيًا، في احترام تام للمنظور الدستوري الجديد الذي يضع الملك فوق التجاذبات ويجعله مرجع التوازن والاستمرارية.
ومن يتابع الأمور عن قرب يلاحظ أن المحاكم امتلأت بملفات المنتخبين والمسؤولين، وبقدر ذلك هناك ملفات أخرى في طور البحث والتدقيق… وهذا وحده كافٍ لطرح السؤال الجوهري: أليس هؤلاء هم من كانوا قبل سنوات يعدوننا بالنعيم والبرامج الانتخابية، ثم ما إن وصلوا إلى الكراسي حتى بدأوا في التبذير وسوء التدبير؟
أليس من الضروري الاستثمار في تأهيل جيل سياسي جديد يرفع حتى من صورتنا كمغاربة أمام العالم؟
لنعُد قليلًا إلى الوراء: ألم يُعفِ الملك بعد حراك الريف عددًا من الوزراء والمسؤولين؟
لكن، ماذا تغير اليوم؟ المواطنون أنفسهم يعيدون انتخاب نفس الوجوه، أو من يشبههم.
وهذا وحده دليل على أن التغيير الحقيقي لن يأتي من أعلى فقط، بل حتى من القاعدة الواعية التي تفكر وتختار وتراقب وتحاسب.
ففي الوقت الذي كان فيه جيل Z ينتظر خطاب الملك لتوبيخ الحكومة، وكانت الحكومة نفسها تنتظر الخطاب لدعوة المواطنين للعودة إلى منازلهم، ظل الملك ثابتًا في رؤيته ومكانته، غير منحاز لأي طرف، مؤكّدًا أن كلهم جزء من شعبه. مادامت الاحتجاجات سلمية وفي إطارها المشروع ولا تعرقل السير الطبيعي للدولة، ولم تتأثر الحكومة بشكل يعيق عملها، فلا داعي للتسرع أو الانفعال. الرسالة واضحة: الأمور ستُترك لتسير في مسارها الطبيعي، مع التركيز على التأطير السياسي للشباب وبناء وعي مستدام لدى المواطنين، بما يضمن استقرار الدولة واستمرار التنمية دون قرارات متسرعة أو انفعالية.